جديد المقالات

القضاء الاستعجالي ينقذ حلم تلميذة في اجتياز امتحان البكالوريا ويكرّس حق التعلم 2025

 القضاء الاستعجالي ينقذ حلم تلميذة في اجتياز امتحان البكالوريا ويكرّس حق التعلم 2025

مقدمة

يُعد الحق في التعليم من أبرز الحقوق الإنسانية التي كرّسها الدستور المغربي والاتفاقيات الدولية، وجعلها من المقومات الأساسية لبناء الإنسان والمجتمع. غير أن هذا الحق، رغم وضوح مكانته الدستورية، يواجه أحيانًا تحديات إجرائية وإدارية قد تهدد تحقيقه في الواقع العملي، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بفئة القاصرين أو الفتيات في الوسط القروي، حيث تتقاطع الاعتبارات القانونية والاجتماعية والإدارية في مشهد معقد.

في هذا السياق، شكّل القرار الصادر عن المحكمة الابتدائية بالرماني بتاريخ 28 ماي 2025، برئاسة الأستاذ عبد الصمد الشني، سابقة قضائية وإنسانية لافتة، بعدما أمر القاضي بتمكين التلميذة (س.م)، القاصر والمقيمة بجماعة عين السبيت، من اجتياز امتحانات البكالوريا – دورة يونيو 2025 رغم عدم توفرها على بطاقة التعريف الوطنية.

هذا القرار لم يكن مجرد حكم استعجالي، بل إعلان صريح عن انتصار العدالة لحق الطفلة في التعليم، وتجسيد عملي لمفهوم "القضاء المواطن" الذي يضع المصلحة الفضلى للطفل فوق كل اعتبار شكلي.

أولًا: خلفية القضية – من العائق الإداري إلى المسألة الحقوقية

بدأت فصول القضية عندما وجدت التلميذة (س.م) نفسها مهددة بالحرمان من اجتياز امتحان البكالوريا بسبب عدم توفرها على بطاقة التعريف الوطنية، رغم اجتيازها للامتحانات الجهوية في السنة السابقة، وانتقالها من مؤسسة خاصة إلى عمومية.

ورغم محاولات أسرتها لتسوية الوضع الإداري عبر دعوى قضائية لتصحيح تاريخ ازديادها بغرض الحصول على بطاقة التعريف، إلا أن تأخير البت في الملف بسبب استئناف النيابة العامة حال دون تمكينها من الوثيقة المطلوبة في الوقت المحدد.

ورفض مدير المؤسسة السماح لها بالاجتياز دون البطاقة، استنادًا إلى المذكرة التنظيمية، وهو ما جعل مستقبل التلميذة الدراسي مهددًا بالضياع قبل أيام قليلة من موعد الامتحان الوطني.

حينها، لجأت والدتها إلى القضاء المستعجل بالمحكمة الابتدائية بالرماني، مطالبةً بتمكين ابنتها من اجتياز الامتحان مع الأمر بالتنفيذ المعجل نظرًا لحالة الاستعجال القصوى، مبرزة أن المنع يشكل مساسًا بحق أساسي مضمون قانونًا ودستوريًا.

ثانيًا: الإطار القانوني والحقوقي للحق في التعليم

1. في الدستور المغربي

ينص الفصل 31 من دستور المملكة المغربية لسنة 2011 على أن الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية تعمل على تعبئة كل الوسائل لتيسير استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في التعليم.
كما يؤكد الفصل 32 على أن الدولة تضمن الحماية الحقوقية والاجتماعية والاعتبارية للطفل، وتضع مصلحته الفضلى في صلب جميع القرارات المتعلقة به.

وعليه، فإن منع تلميذة قاصر من اجتياز امتحانها بسبب وثيقة إدارية غير متاحة لأسباب خارجة عن إرادتها، يعدّ تقييدًا غير مشروع لحق دستوري يمس مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة التعليمية.

2. في المواثيق الدولية

تكرّس الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل (1989)، التي صادق عليها المغرب، في مادتها 28، حق الطفل في التعليم دون تمييز، وتلزم الدول الأطراف باتخاذ التدابير الضرورية لضمان ولوج جميع الأطفال إلى التعليم.
كما تؤكد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مادته 13 أن التعليم يجب أن يكون متاحًا ومتاحًا للجميع دون قيود تعسفية.

وبناءً على ذلك، فإن الحق في التعليم ليس منّة من الدولة، بل التزام قانوني وأخلاقي، وأي عائق إداري يمنع تحقيقه يشكل خرقًا صريحًا لهذه الالتزامات.

ثالثًا: القضاء الاستعجالي كآلية لحماية الحقوق الأساسية

1. الطبيعة القانونية للقضاء الاستعجالي

القضاء الاستعجالي في النظام المغربي هو قضاء الحماية والوقاية، يهدف إلى التدخل السريع لمنع وقوع ضرر أو رفعه قبل أن يصبح غير قابل للإصلاح.
ويستمد القاضي الاستعجالي صلاحياته من الفصل 149 من قانون المسطرة المدنية، الذي يمنحه سلطة إصدار أوامر وقتية دون المساس بجوهر الحق.

في هذه القضية، اعتبر القاضي أن منع التلميذة من اجتياز امتحانها يشكل ضررًا وشيكًا يصعب تداركه، خصوصًا أن امتحانات البكالوريا فرصة مصيرية لا يمكن تعويضها لاحقًا.

2. توافر عنصر الاستعجال

بيّن القرار بوضوح أن حالة الاستعجال متحققة من خلال اقتراب موعد الامتحان واستحالة الحصول على البطاقة في الوقت المناسب.
فالخطر لم يكن نظريًا، بل واقعيًا محدقًا بحق دستوري للطفلة، وهو ما يبرّر التدخل العاجل للقاضي، حتى دون استدعاء الجهة الإدارية المعنية.

رابعًا: تحليل منطوق القرار القضائي

1. مضمون الحكم

أصدر القاضي الاستعجالي أمرًا بتمكين الطالبة (س.م) من اجتياز امتحانات البكالوريا – مسلك علوم الحياة والأرض بمركزها المخصص، مع النفاذ المعجل دون كفالة، مستندًا إلى أن:

“اجتياز الامتحان حق أساسي لا يجوز تقييده بأي شرط إداري أو إجرائي، والمنع من هذا الحق يعدّ تفويتًا لفرصة مصيرية يصعب تداركها.”

2. الأساس القانوني للحكم

استند القرار إلى:

  • الفصل 149 من قانون المسطرة المدنية المتعلق بالمساطر الاستعجالية.
  • الفصل 31 من الدستور المغربي الذي يكرّس الحق في التعليم.
  • الاتفاقيات الدولية التي تضمن حق الطفل في التعلم والمساواة.
  • الاجتهاد القضائي المغربي الذي يعتبر التعليم من الحقوق غير القابلة للتقييد الإداري.

3. التعليل الحقوقي

جاء التعليل منسجمًا مع المبادئ الدستورية والمواثيق الدولية، حيث اعتبر القاضي أن رفض تمكين الطالبة من اجتياز الامتحان يمثل إخلالًا بمبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص، وأن التدخل العاجل واجب لتفادي حرمانها من مستقبلها الدراسي.

خامسًا: البعد الإنساني والاجتماعي في القرار القضائي

على الرغم من أن الحكم ذو طابع قانوني صرف، إلا أنه يحمل بعدًا إنسانيًا عميقًا؛ فقد تعامل القاضي مع الملف بروح العدالة الرحيمة، واضعًا نصب عينيه مصلحة الطفلة ومستقبلها قبل أي شكليات.

إن هذه المقاربة الإنسانية تذكّرنا بأن القضاء ليس فقط سلطة قانونية، بل هو أيضًا ضمير المجتمع حين يتعرض أحد أفراده للظلم الإداري أو الاجتماعي.
فتمكين تلميذة قاصر من اجتياز امتحانها لا يُعتبر استثناءً من القانون، بل تطبيقًا جوهريًا له في أسمى معانيه، وهو ما يجعل هذا القرار نموذجًا في “العدالة المواطنة”.

سادسًا: الدلالات القانونية والاجتماعية للقرار

توسيع مفهوم الاستعجال القضائي:

القرار وسّع دائرة تدخل القضاء الاستعجالي لتشمل حماية الحقوق الأساسية، وليس فقط الحالات المادية الطارئة.

ترسيخ مبدأ المصلحة الفضلى للطفل:

انسجامًا مع المادة 32 من الدستور، أكد الحكم أن مصلحة الطفلة التعليمية مقدّمة على أي إجراء إداري.

تحقيق العدالة الوقائية:

القرار منع ضررًا محققًا قبل وقوعه، مما يعكس تطورًا في الفكر القضائي نحو العدالة الاستباقية بدل العدالة التعويضية.

التفاعل الإيجابي بين القضاء والمجتمع:

التفاعل الواسع مع الحكم من قبل الأطر التربوية وجمعيات الآباء يعكس ثقة المجتمع في القضاء كضامن للحقوق.

إرساء ثقافة الحق بدل ثقافة الإجراء:

القرار أعاد التأكيد على أن الشكل الإداري لا يجب أن يعلو على جوهر الحق الدستوري، خصوصًا في قضايا التعليم.

سابعًا: دور القضاء في حماية الحقوق الاجتماعية

يؤكد هذا الحكم أن القضاء المغربي أصبح فاعلًا مركزيًا في حماية الحقوق الاجتماعية، خصوصًا تلك المتعلقة بالطفولة والتعليم.
لم يعد القاضي يكتفي بتطبيق النصوص، بل أصبح مفسّرًا لها بروح العدالة والإنصاف، مما يجعل القضاء أداة إصلاح اجتماعي حقيقية.

إن هذه الدينامية توازي ما جاء في الخطة الوطنية لإصلاح منظومة العدالة، التي تنص على ضرورة تعزيز حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من خلال القضاء الإداري والاستعجالي.

ثامنًا: التفاعل المؤسسي والمجتمعي مع القرار

لاقى الحكم إشادة واسعة من طرف الأطر التربوية، والهيئات الجمعوية، وأولياء الأمور، الذين اعتبروه انتصارًا للقيم الإنسانية في الممارسة القضائية.
كما نوهت جمعية آباء وأمهات وأولياء تلاميذ ثانوية التوحيد بعين السبيت بالقرار واصفةً إياه بـ"القصة الإنسانية التي تعيد الثقة في العدالة المغربية".

وقد عبّر العديد من الأساتذة القانونيين عن أن القرار يمثل تطورًا في مفهوم القضاء الاستعجالي المغربي، لأنه تجاوز الجانب الإجرائي ليلامس البعد الحقوقي والإنساني في التطبيق.

تاسعًا: نحو اجتهاد قضائي مستقر في قضايا التعليم

تؤشر هذه السابقة على ضرورة تطوير اجتهاد قضائي مستقر يؤطر القضايا التعليمية التي تمس حق التلميذ في التعلم، سواء تعلق الأمر بأخطاء إدارية، أو عراقيل تقنية، أو صعوبات اجتماعية.

كما تدعو إلى تفعيل مبدأ النفاذ المعجل في كل ما يخص قضايا التلاميذ القاصرين والامتحانات المصيرية، لأن التأخير في البت فيها يعادل في أثره الحرمان الفعلي من الحق.

خاتمة

يُبرز القرار الصادر عن المحكمة الابتدائية بالرماني أن القضاء ليس فقط سلطة للفصل في المنازعات، بل مؤسسة لحماية الكرامة الإنسانية والحقوق الدستورية.
لقد جسّد هذا الحكم التلاقي بين القانون والعدالة، بين النص وروح الإنسانية، وبين المسطرة والحق، مؤكدًا أن الطفل في قلب الاهتمام القضائي المغربي.

لقد أنقذ هذا القرار حلم تلميذة في مواصلة دراستها، لكنه في العمق أنقذ صورة العدالة المغربية أمام ضمير المجتمع.
إنها ليست مجرد واقعة قضائية، بل درس في تطبيق العدالة بضمير، وتذكير بأن القاضي، حين ينصت لصوت الحق، يصبح حارسًا لإنسانية القانون.

الكاتب
الكاتب