يُعدّ التعليم الجيد حجر الأساس في بناء الإنسان وتنمية المجتمعات، وأحد أهم مؤشرات التنمية المستدامة التي تقيس قدرة الدول على الاستثمار في الإنسان قبل الموارد. إذ يمثل المرحلة التي تتشكل فيها المهارات المعرفية والقيم الأساسية.
في المغرب، ورغم الجهود الكبيرة التي بُذلت منذ بداية الألفية الثالثة لتوسيع الولوج إلى المدرسة، فإنّ التحدي الحقيقي الذي تواجهه المنظومة التربوية اليوم هو تحدي جودة التعلمات، خاصة في القراءة والكتابة والحساب، وهي مهارات تعتبر حجر الأساس في تكوين المتعلم.
فقد نجح المغرب في تحقيق شبه تعميم للتعليم الابتدائي، لكنه لم ينجح بعد في ضمان تعلّم فعلي وفعّال لجميع التلاميذ.هذا الوضع جعل المغرب يصنّف ضمن البلدان التي تعاني من معدلات مرتفعة لما يُعرف بـ “فقر التعلّم” (Learning Poverty)، وهو المؤشر الذي أصبح منذ سنة 2019 أحد أهم الأدوات المعتمدة لقياس فعالية أنظمة التعليم الأساسية على الصعيد الدولي.
هذا ما تؤكده تقارير البنك الدولي التي تُظهر أنّ أكثر من نصف التلاميذ المغاربة في نهاية التعليم الابتدائي لا يستطيعون قراءة نص بسيط وفهمه — وهو ما يصطلح عليه بـ فقر التعلّم (Learning Poverty).
إنّ هذا المقال يقدّم قراءة تحليلية شاملة لتقارير البنك الدولي حول التعليم الابتدائي المغربي، مع التركيز على:
- مؤشر فقر التعلّم؛
- وضعية التعلمات الأساسية لدى التلاميذ المغاربة؛
- أبرز التوصيات والسياسات المقترحة لتحسين جودة التعليم.
التعليم الابتدائي المغربي: من التعميم إلى الجودة
1. التمدرس الشامل والإنجاز الكمي
عرف المغرب خلال العقود الأخيرة تطورًا نوعيًا في نسب التمدرس.
فحسب معطيات وزارة التربية الوطنية (2023)، بلغت نسبة الالتحاق بالتعليم الابتدائي 99٪ في المدن و96٪ في القرى، كما تقلّصت الفجوة بين الذكور والإناث إلى أدنى مستوياتها.
وقد تمكّن المغرب بذلك من تحقيق أحد أهم أهداف الألفية المتعلقة بتعميم التعليم الأساسي.
غير أنّ هذا النجاح الكمي لم يُواكبه تحسن نوعي في مكتسبات التلاميذ.
فالكثير من التلاميذ، رغم قضائهم ست سنوات في المدرسة، يواجهون صعوبات في القراءة والكتابة والحساب، وهو ما يشير إلى ضعف نواتج التعلم.
يؤكد تقرير البنك الدولي “Education Support Program (P167619)” (2019) أن: تحميل التقرير
“المغرب حقق تقدمًا كبيرًا في تعميم التعليم الابتدائي، لكن التحصيل الفعلي للتلاميذ لا يزال دون المستوى المطلوب لضمان انتقال ناجح نحو التعليم الإعدادي.”(World Bank, 2019, Program Appraisal Document, p.5)
2. من أزمة التمدرس إلى أزمة التعلّم
يشير تقرير التنمية العالمي للبنك الدولي 2018 إلى أن العالم لا يواجه “أزمة تمدرس”، بل “أزمة تعلّم”.
والمغرب ليس استثناءً، إذ تظهر التقييمات الوطنية والدولية (TIMSS وPIRLS وPASEC) أن مستوى التحصيل في التعلمات الأساسية لا يوازي الجهود المبذولة في التمدرس.
تؤكد وثيقة البنك الدولي (P179637, 2023) أن:
“الطفل المغربي يقضي في المدرسة نحو 12 سنة في المتوسط، لكنه لا يكتسب سوى ما يعادل 6 سنوات من التعلم الفعلي.”(World Bank, 2023, p.8)
مفهوم فقر التعلّم: من القياس الكمي إلى الفهم النوعي
1. التعريف والمفهوم
“نسبة الأطفال في سن العاشرة الذين لا يستطيعون قراءة نص بسيط وفهمه.”(World Bank & UIS, 2019)
وهو مؤشر مركّب يجمع بين:
- نسبة التلاميذ الملتحقين بالمدرسة (S)،
- ونسبة الذين يتقنون القراءة والفهم (R).
فقر التعلّم إذن لا يعني فقط غياب التمدرس، بل يشمل الأطفال الموجودين في المدرسة ولكنهم لا يتعلمون بالقدر الكافي.
2. دلالة المؤشر في السياق المغربي
يشير تقرير Learning Poverty Brief – Morocco (2024) إلى أنّ:
“حوالي 60 إلى 66٪ من التلاميذ المغاربة في سن العاشرة لا يستطيعون قراءة نص بسيط وفهمه.”(World Bank, 2024, p.2)
كما أن المقارنة مع دول أخرى متقاربة الدخل تُظهر أنّ المغرب ما يزال دون المتوسط الإقليمي، رغم الإصلاحات الهيكلية التي عرفها منذ 2015.
تقارير البنك الدولي حول جودة التعلمات الأساسية في المغرب
1. برنامج دعم التعليم (P167619)
- تحسين جودة التعليم ما قبل المدرسي؛
- تطوير التعلمات الأساسية في الابتدائي؛
- وتطوير حكامة المؤسسات التعليمية.
ويركّز البرنامج على ممارسات التدريس الفعالة (Improved Teaching Practices) التي تُمكّن التلاميذ من تعلّم القراءة والفهم بأساليب نشطة.
“تحسين ممارسات التدريس هو الشرط الأساس لرفع مستوى التعلّم، ولا يمكن تحقيق نتائج مستدامة دون دعم ميداني للمعلمين.”(World Bank, 2019, PAD, p.14)
2. التمويل الإضافي (P179637) – مرحلة التعميق
ويشير التقرير إلى أن:
“هذا التمويل الإضافي سيساعد المغرب على تسريع تنفيذ الإصلاحات لتحسين التعلمات الأساسية وتعويض خسائر التعلّم الناتجة عن جائحة كوفيد-19.”(World Bank, 2023, p.6)
3. التركيز على التعلمات الأساسية
“التلميذ الذي لا يتقن القراءة في السنة الثالثة يواجه صعوبة في تعويض ذلك لاحقًا، مما يرسّخ فقر التعلّم.”(World Bank, 2021, p.7)
ويعتبر البنك أنّ القراءة والفهم والحساب هي مهارات تأسيسية يجب ضمانها قبل الانتقال إلى المستويات الأعلى.
التوصيات الرئيسة للبنك الدولي للمغرب
1. تطوير بيداغوجيا فعالة للتعليم المبكر
يوصي البنك الدولي باعتماد “البيداغوجيا المنظمة (Structured Pedagogy)”، أي تقديم تعليم مبني على أدلة واضحة ودروس منظمة تسهّل الفهم.
2. تكوين الأساتذة ميدانيًا
يشدد على ضرورة الانتقال من التكوين النظري إلى التكوين العملي في الفصول الدراسية عبر المرافقة والتأطير المستمر (Coaching).
3. التقييم المستمر للتلاميذ
التقويم لا يجب أن يكون نهاية السنة فقط، بل عملية دائمة لقياس مستوى التلاميذ ومعرفة المتعثرين مبكرًا.
4. إشراك الأسرة والمجتمع
تفعيل التواصل بين المدرسة والأسرة يُعتبر عنصرًا محوريًا لدعم التلميذ وتشجيعه على القراءة في البيت.
5. حكامة تمويلية تربط الدعم بالنتائج
إحدى أهم التوصيات هي ربط التمويل بتحقيق نتائج تعلم فعلية، وهو ما تم تطبيقه لاحقًا في مشروع المؤسسة الرائدة.
تحليل العلاقة بين فقر التعلّم والسياسات التعليمية الوطنية
تلتقي أهداف البنك الدولي مع الإصلاحات الوطنية المغربية التي عبّرت عنها:
- الرؤية الاستراتيجية 2015–2030،
- والقانون الإطار 51.17،
“التمويل من أجل التعلم لا يمكن أن ينجح إلا عندما تكون المدرسة مركزًا للتغيير.”(World Bank, Morocco Education Support Program Progress Report, 2024)
فقر التعلّم كمرآة للجودة التعليمية
وقد بدأ المغرب فعلًا في تفعيل هذا التوجه من خلال مشروع المؤسسة الرائدة (École Pionnière)، الذي يُعتبر الترجمة الميدانية لتوصيات البنك الدولي — وهو ما سنتناوله بالتفصيل في المقال التالي : آليات تمويل البنك الدولي لمشروع المؤسسة الرائدة.
خاتمة
تكشف تقارير البنك الدولي عن حقيقة واضحة:
أنّ التحدي الأكبر في التعليم الابتدائي المغربي لم يعد تعميم التمدرس بل تعميم التعلّم. فالتلميذ المغربي اليوم يحتاج إلى تعليم يجعله قادرًا على القراءة والفهم والتحليل، لا مجرد الحضور في القسم.
إنّ محاربة فقر التعلّم ليست مجرد هدف تربوي، بل قضية تنموية تمسّ مستقبل الأجيال وقدرة البلاد على الازدهار.
ولذلك، فإنّ كل جهد إصلاحي، وكل برنامج تمويلي، يجب أن يُوجّه نحو تحقيق هذا المبدأ:
أن يتعلّم كل تلميذ مغربي بعمق، وأن تكون المدرسة فضاءً للتفكير والفهم، لا مجرد مكان للتلقين.